عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 10-03-2012, 02:48 PM
الصورة الرمزية الزهراء
الزهراء غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
الدولة: الدنيا الفانية
المشاركات: 4,297
افتراضي رد: سيرة الإمام الشافعي [متجدد]

[table1="width:100%;background-image:url('http://www.solaim.com/vb/mwaextraedit2/backgrounds/48.gif');ba
ckground-color:white;border:3px groove deeppink;"][cell="filter:;"]





لمحات من حياة الشافعي



من المعلوم أن إمام المذهب الشافعي ومؤسسه هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الشافعي، وينتهي نسبه إلى عبد مناف جد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وشافع بن السائب هو الذي يُنسب إليه الشافعي.

ولد بغزة وقيل بعسقلان، وقيل: بمنى، وقيل: باليمن سنة خمسين ومئة للهجرة، وهي السنة التي تُوفي فيها الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، وقيل: في اليوم الذي مات فيه.

حُمِل إلى مكة وهو ابن سنتين، ونشأ بها وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين وحفظ "الموطأ" وهو ابن عشر، وتتلمذ على جماعة من أهل العلم؛ منهم: مسلم بن خالد الزنجي المكي، وأجازه بالإفتاء وعمره خمسة عشر عامًا، ثم رحل إلى الإمام مالك بالمدينة ولازمه مدة، ثم قدم بغداد سنة خمس وتسعين ومئة للهجرة فأقام بها سنتين، واجتمع عليه علماؤها، ورجع كثيرون منهم عن مذاهب كانوا عليها إلى مذهبه، وصنف بها كتبه القديمة، ثم عاد إلى مكة فأقام بها مدة، ثم عاد إلى بغداد سنة ثمان وتسعين ومئة للهجرة، فأقام بها شهرًا، ثم خرج إلى مصر، فلم يزل بها ناشرًا للعلم ملازمًا للاشتغال بجامعها العتيق إلى أن أصابته ضربة شديدة فمرض بسببها أيامًا، وقيل: مات بسبب البواسير، ثم انتقل إلى رحمة الله -تعالى- يوم الجمعة آخر رجب من عام أربعة ومئتين للهجرة، ودفن بالقرافة بعد العصر من يومه.

وقد تميزت شخصية الإمام بعدة مميزات، وتحلى بمجموعة من المواهب والذكاء الفطري مما ساهم في تأهيله للمرتبة التي وصل إليها، وأشير هنا إلى شذرات من جوانب شخصيته الفذة:

أ‌- قامع البدعة:

لقد اشتهر الشافعي بفقهه وذكائه الوقاد ونصرته للكتاب والسنة؛ ولذلك ارتعدت فرائص أهل البدع منه، وتذكر لنا كتب التاريخ والتراجم بعضًا من مناظراته، والتي لم يُسبق إليها مع بعض المبتدعة منذ أن كان يافعًا يطلب العلم بمكة، ومما تذكره كتب التراجم: أنه حج بشر المريسي فرجع، فقال لأصحابه: رأيت شابًّا من قريش بمكة ما أخاف على مذهبي إلا منه!.

وناظر إبراهيم بن علية -والذي كان من كبار الجهمية كما يقول الذهبي- وحفصا الفرد في مسألة خلق القرآن وزيادة الإيمان ونقصانه، فقد كان -رضي الله عنه- مناظرًا من الطراز الأول، ويظهر هذا في كتبه، خاصة كتاب الرسالة.

كما كان -رضي الله عنه- كغيره من الأئمة شديد التحذير من البدع والأهواء، ومن عباراته الشهيرة: لأن يلقى الله المرء بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء.

ولأن علم الكلام كان سببًا رئيسًا وطريقًا سهلة للبدعة وأهلها؛ فقد حذر منه أشد التحذير، فكان يقول: ما شيء أبغض إليَّ من الكلام وأهله. ولهذا لقب الإمام حينما قدم بغداد بناصر السنة؛ لأنه نصر السنة في معركتها ضد البدعة والذي شهد عصره انتشارًا واسعًا لها في بعض الأقاليم خاصة العراق، والتي كانت تعُج بالكثير الكثير من الأهواء والبدع المفارقة للإسلام وهديه، كما أنه نصر السنة في مواجهة الرأي المناقض والرافض للسنة أو لبعضها، والذي جعل لنفسِه منهجًا جانب الصواب في بعض قواعده ومفرداته في تعامله مع السنة؛ إذ إن بعض فقهاء العراق رد بعض السنة بحجة مخالفتها إما للقرآن أو لِمَا اجتمع لديه من أصول، أو لسنة أخرى رأى تقديمها، أو لكونها مما ينبغي أن تنقل تواترًا لكون مضمونها مما تعم به البلوى، أو غيره من وجهات النظر التي لم ترض المحدثين، فشنوا حملة على أصحاب الرأي، إلا أن غالبهم لم يكن لديه من الحجج القوية التي يستطيع من خلالها دحض هذا الاتجاه، حتى جاء الشافعي فأصلح بين الفريقين؛ بحيث إنه هدأ ثورة غضب الجميع، ووضح لكل فريق وجهة نظره، كما أنه بيَّن الحق ونصر السنة على الرأي الذي يخالفها ويناقضها، فرجع كثيرون عن مذاهبهم المخالفة للسنة والمبنية على تقديم الرأي إلى مذهب الشافعي، والذي كان مرتكزه تقديم السنة على كافة أشكال الرأي.

ولهذا: لا عَجَبَ أن نجد الكثير من المحدثين الشافعية؛ كابن خزيمة والدراقطني والمزي والذهبي وابن حجر وغيرهم.

ب‌- الشخصية الجذابة:

لقد تمتع الشافعي بشخصية جذابة، فاستطاع أن يؤثر في قطاعات واسعة ومتنوعة من الفقهاء والمحدثين وطلبة العلم والعامة، فاستطاع أن يجذب إلى حلقته جماعة من جهابذة عصره؛ أمثال الإمام أحمد وأبي ثور وغيرهما، وقد تأثر التلاميذ بشخصيته تأثرًا بالغًا وأحبوا شيخهم حبًّا عظيمًا، وحملوا له في نفوسهم كل التقدير والاحترام.

وكنموذج لهذا نذكر أن أبا ثور سئل: أيهما أفقه الشافعي أو محمد بن الحسن؟ فأجاب: الشافعي أفقه من محمد وأبي يوسف وأبي حنيفة وحماد -شيخ أبي حنيفة-، وإبراهيم -شيخ حماد-، وعلقمة -شيخ إبراهيم-، والأسود -شيخ علقمة-.

هذا: رغم أن أبا ثور كان على مذهب أهل الرأي قبل قدوم الشافعي العراق، وهذا يُرينا مقدار تأثير الشافعي في نفوس الناس وخاصة طلابه الذين انبهروا به انبهارًا عظيمًا، ومع هذا لم يخل الحال من معارضين لإمامة الشافعي وأناس لم يقدروه قدره؛ فهذا ابن مَعين يعتب على الإمام أحمد كيف أن الشافعي راكب وهو آخذ بركابه؟! فيجيب أحمد قائلاً: إن أراد التفقه فليأت وليمسك بركابه من الجانب الآخر!

ولهذا: كان الأمام أحمد كثيرًا ما يدعو للشافعي، مما دفع ابنه عبد الله لسؤاله عن سبب دعائه له، فأجابه: لقد كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن؛ فانظر هل لهذين من خلف؟!

وقد رزق الله سبحانه الإمام قبولاً واسعًا قلَّ نظيره؛ ولهذا عندما ذهب إلى العراق ثم مصر استطاع أن يكوِّن له أتباعًا، واستطاع أن يجذب الكثيرين مما أغضب بعض المتعصبة؛ لأنهم رأوا أن كثيرًا من أتباعهم يتركونهم شيئًا فشيئًا ملتحقين بحلقة الشافعي ودروسه، فنقم عليه بعض المتعصبة وحاولوا الكيد له فلم يفلحوا، وكان بعض المالكية يدعو على الإمام في سجوده بالموت من شدة غيظه وكرهه له، لا لشيء إلا مخالفة المذهب!

فيُحكَى أن أشهب -وهو من أئمة المالكية في مصر- كان يدعو في سجوده: اللهم أمت الشافعي، وإلا؛ ذهب علم مالك!! فبلغ ذلك الشافعيَّ فأنشد متمثلاً:

تمنّى رجالٌ أن أموت وإن أمُتْ***فتلك سبيلٌ لستُ فيها بأوْحدِ

فقُلْ للذي يبغي خلافَ الذي مضى***تزوَّدْ لأخرى غيرها فكأنْ قدِ


قال محمد بن عبد الحكم: فمات الشافعي فاشترى أشهب من تركته عبدًا، ثم مات أشهب فاشتريت أنا ذلك العبد من تركة أشهب، وكانت وفاة أشهب في شهر رجب سنة أربع ومائتين بعد الشافعي بثمانية عشر يومًا، وقيل: بشهر واحد، بل يحكى أن الإمام الشافعي دفع حياته ثمنًا لانتشار مذهبه وقبول الناس له.

ج- التصنيف:

أتى عهد الشافعي وقد بدأت بوادر التصنيف والتأليف، وخاصة في مجال الحديث. أما الفقه؛ فقد كان التصنيف فيه قليلاً، والمصنفات الفقهية السابقة على الشافعي كانت تُعد بالأصابع، بله أصول الفقه الذي لم يصنف فيه أحد حتى جاء الشافعي وصنف الرسالة وغيرها.

فالإمام مالك صنف الموطأ وهو كتاب فقهي حديثي، وأبو يوسف ألف مجموعةً من الكتب فُقد الكثير منها، والإمام أحمد صنف مجموعة من الكتب، حتى جاء الإمام الشافعي ووضع كتابه الحجة في مذهبه القديم، ولكنه أبدع في كتبه الجديدة وخاصة الأم، والذي ألفه وهو بمصر، وقد اشتمل على معظم أبواب الفقه. ولهذا قيل: إن كتاب الأم هو أول كتاب يصنف في الفقه، ولم يقتصر الأمر على هذا، بل كان للإمام السبق في تأليف وتبويب كتب لم تعرف قبله مثل: كتاب المسابقة والمناضلة.

كما أن الإمام جاء والعلماء يتجادلون ويتناظرون، ولم تكن هناك قواعد أو قوانين مدونة يتحاكمون إليها ويدرسونها لتلاميذهم كي يجعلوها قواعدَ وضوابطَ يَقيسون بها استنباطاتهم واجتهاداتهم، فصنف الإمام كتاب الرسالة في علم أصول الفقه، فكان أول واضع لهذا العلم ومرتبا ومبوبا ومخرجا له إلى النور، فلم يسبق لأحد أن كتب في هذا العلم قبل الشافعي، فالإمام أحمد يقول: ما كنا ندري ما العام ولا الخاص ولا الناسخ من المنسوخ حتى جاء الشافعي.

أقول: هذا لأن بعض الأحناف زعم أن أبا يوسف قد سبق غيره وصنف كتابًا في أصول الفقه، فإذا ما طُولِبُوا به؛ أجابوا بضياعه، والحق ما قدمناه؛ لأنه لو كان كما قيل؛ لاشتهر الأمر أولاً، وثانيًا: لم يكن أحمد أن يقول مقالته السابقة.

هذا: ويعتبر كتاب الرسالة خطوة جيدة في مجال التأليف عامة في العصر الإسلامي، وفي مجال علم أصول الفقه خاصة؛ إذ من المعلوم أن التأليف في الحديث لا يستدعي سوى استحضار الحديث بسنده، أضف إلى أنه مرَّ بمراحل حتى انتهى إلى ما انتهى إليه، لكن الرسالة لم تُبْنَ على كتابات سابقة، ولم تجمع فيها المادة كيفما اتفق.

وأصل كتاب الرسالة أن عبد الرحمن بن مهدي كتب إلى الشافعي وهو شاب أن يضع له كتابًا فيه معاني القرآن، ويجمع فنون الأخبار فيه، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، فوضع له كتاب الرسالة، قال عبد الرحمن بن مهدي: ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها.

ونفهم من هذه القصة أن كتاب الرسالة من كتب الشافعي القديمة، وأنه كتاب واحد استمر في تنقيحه وتهذيبه طوال مسيرته العلمية، فليس للشافعي رسالتان قديمة وجديدة كما ظن البعض، بدليل أن القديمة مفقودة، وكون بعضهم نقل جملاً منها لا يعني بقاؤها واستقلالها، بل نقول: إن ما نقل منها وهو غير موجود في الجديدة مما تراجع عنه الشافعي وغيَّر رأيه فيه.

د- الشافعي واللغة:

لقد كان لاختلاط الشافعي بالهذليين وحفظه لقصائدهم ودواوينهم أثر فعال في نمو ملكة ومعرفة الشافعي اللغوية، فألم بلغة العرب نحوًا وصرفًا، وكان عالمًا بلهجات العرب وتصاريف كلامها؛ ولهذا لم يعثر له على خطإ نحوي أو لغوي كما عثر لغيره، وما كان يظن أنه خطأ فهو من قلة معرفة الناقد أو تحامله.

وبديهي أن يكون الشافعي إمامًا وحجة في اللغة، كما قال أحمد وابن هشام -صاحب السيرة-: الشافعي حجة في اللغة.

لأن من شروط المجتهد المطلق أن يكون كذلك، وإن خالف في هذا بعض الأصوليين كالشاطبي وغيره، بيد أن هذا الشرط قد تحقق في الشافعي، ولهذا فاعتراض بعضهم على بعض أقوال وتفسيرات الشافعي غير صحيحة، ونضرب مثالين على ذلك:

الأول: مسألة حرف الجر، أيفيد التبعيض أو لا؟ فنُقِل عن الشافعي أنه يفيد التبعيض، فشنع عليه بعض الأحناف والمالكية وغيرهم، وقالوا: إن هذا المعنى مما لا تعرفه العرب في حرف الباء، بدليل أن علماء اللغة لم يذكروه من معانيه، بل ادعوا إجماع النحاة على ذلك، وهذا ما أخذ به ابن مالك في الألفية كما يظهر منها؛ إذ لم يعد في ألفيته هذا المعنى.

والجواب على ذلك أن يقال: إن كون النحاة لم يثبتوا هذا المعنى للباء مقابل بإثبات الشافعي له وهو حجة في اللغة، والمثبت مقدم على النافي كما هو معلوم، وكون الشافعي إمامًا في الفقه لا يعنى جهله باللغة، بل معرفة اللغة من شروط الاجتهاد، فالاحتجاج بقول الفقيه النحوي مقدم على قول النحوي فقط؛ لأن للفقهاء تدقيقات لا يدركها النحاة، وهذه لفتة مهمة ينبغي التنبه لها، ولهذا نجد تقسيمات وتدقيقات من الأصوليين في مسائل نحوية لم يذكرها النحاة، والسبب -كما قال الزركشي في مقدمة كتابه الممتع البحر المحيط-: فإن الأصوليين دققوا النظر في فهم أشياء من كلام العرب لم تصل إليها النحاة ولا اللغويون، فإن كلام العرب متسع، والنظر فيه متشعب، فكتب اللغة تضبط الألفاظ ومعانيها الظاهرة دون المعاني الدقيقة التي تحتاج إلى نظر الأصولي باستقراء زائد على استقراء اللغوي.

وأنبه هنا إلى نقطة مهمة وهي أن كون الرجل يشتهر بعلم ما لا يعني هذا بالضرورة جهله ببقية العلوم، بل قد يكون إمامًا فيها أيضًا مساويًا أو متفوقًا على الأئمة المتخصصين فيها، ولكنه -بفضل من الله- أشد معرفة وعمقًا في بعضها، فلا يعني هذا أن نلغي معرفته وإمامته في جوانب وعلوم لشهرته في علم معين، فإن هذا لمن الغمط البيِّن.

وكمثال آخر لهذا أن الإمام أحمد اشتهر عند القاصي والداني أنه محدث إمام في الحديث وعلله ورجاله.. إلخ، فظن البعض جهله بالفقه والاستنباط، وهذه جناية على الإمام أحمد، فكونه إمامًا في الحديث لا يعني أن يكون جاهلاً في غيره، وهذه كتبه وفتاواه تشهد بغزارة علمه وفقهه.

وهكذا بدلاً من أن يُصبح التبحر في علم ما منقبة أصبع على يد هؤلاء مذمة ولو بوجه من الوجوه!

ونقول أيضًا: إن الزعم بأن الباء لا تأتي للتبعيض لغة بإجماع النحاة منقوض بإثبات الأصمعي ونحاة الكوفة له.

المثال الثاني: فسر الشافعي العول في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ﴾ [النساء: 3]، بكثرة العيال، هكذا فسره الإمام الشافعي المتفق على إمامته واجتهاده اجتهادًا مطلقًا، فجاء ابن العربي المقلد لمذهب مالك وشنع على الشافعي وتهكم به وبكبار أتباعه، واحتج بأن (عال) لا تأتي إلا لسبعة معانٍ فقط وليس منها ما قاله الشافعي، وأنه لم يقل أحد بقول الشافعي، والصحيح أن حصْره للمعاني السبعة غير سديد، بل ذكر العلماء لها معاني أخر، وكون الشافعي لم يسبق بهذا التفسير فيجاب بأن الشافعي إمام في اللغة، وعدم الذكر لا يدل على عدم الوجود، والمثبت مقدم على النافي، إضافة إلى أنه قد سبق الشافعي إلى القول به زيد بن أسلم وجابر بن زيد، وهما إمامان من أئمة المسلمين لا يفسران القرآن -ومعهما الإمام الشافعي- بما لا وجه له في العربية، وقد أخرج ذلك عنهما الدراقطني في سننه، وقد حكاه القرطبي عن الكسائي وأبي عمر الدوري وابن الأعرابي، وقال أبو حاتم: كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا ولعله لغة، وقال الثعلبي: قال أستاذنا أبو القاسم ابن حبيب: سألت أبا عمر الدوري عن هذا -وكان إمامًا في اللغة غير مدافع- فقال: هي لغة حمير.

ولست أدري لماذا يتعجل البعض في الإنكار على أولي العلم ممن هم أعلى منه عصرًا ورتبة دون أن يتروى ويتأمل فيما يقوله ويبحث في المسألة من جوانبها، ويرجع إلى أهل الاختصاص؟! فالتعجل قد يُودِي بصاحبه خاصة إذا كان من العلماء، ثم أين حفظ أقدار علماء الأمة ومجتهديها؟!

إذن: لا بد من احترام أقوالهم وإن كان الصواب في غيرها من وجهة نظر الناقد، ولا يعني هذا التشنيع على الإمام وإطلاق العبارات الموهمة والتي تفهم اتهامه له بالجهل ونحوه.

ثم إن ابن العربي وأمثاله بالنسبة للشافعي بمثابة طلبة علم، بل لا يرتقون لمرتبة تلاميذه، وطالب العلم ليس له إلا أن يستفتي أولي العلم ويقلدهم أو يبحث في المسألة بنفسه حتى يترجح له شيء، مع حفظ مقام المجتهدين، وكونه رجح قولاً ما لا يعني هذا بلوغه مرتبة الاجتهاد، فلا يظنن أحد بنفسه ذلك إلا إن بلغها حقًّا وتوفرت شروطها.

إننا عندما نطالب العامي باحترام العالم وتوقيره لا نقصد العالم لذاته، وإنما للعلم الذي يحمله، فحري بأهل العلم أن يتمثلوا هذا الأدب قبل غيرهم.

لقد كان لبروز الشافعي في اللغة واختلاطه بالعرب الأقحاح أن تفتقت قريحته الشعرية فأثر عنه بعض الأبيات التي تميزت بالحكمة والوعظ والزهد، فكانت أشعار عالم يريد أن يوجه همم الناس لما هو أرقى وأنفع لهم في دينه ودنياهم، ولم يعر باله موضوعات الشعر الأخرى، أضف إلى أنه لم يكن يعتني بسبك الشعر على منوال الشعراء الذين يهتمون بوجوه البلاغة، وهذا وإن كان طيبًا إلا أن الشافعي بصفته فقيهًا لم يكن يولي هذا جانبًا كبيرًا في شعره، بل كان أكثر ما يهمه هو إيصال الفكرة وتجليتها بأوضح عبارة، بحيث لا تحتاج إلى تأمل فيصعب فهمها على من ليس له اهتمام شعري، وهذا ما عليه غالب العامة.

ولهذا: سارت بعض أبياته مسار الأمثال التي يحفظها الكثيرون، وكانت كلماته الشعرية الجامعات مثار إعجاب وتأثير في نفوس الناس، رغم أن من القصائد العربية ما تفوق شعر الشافعي -صناعةً- بمفاوز، ولكنها لم تحظَ بما حظيت به أبيات هذا الإمام.

وهذه نماذج من شعره:

أمتُّ مطامعي فأرحت نفسي***فإن النفس ما طمعت تهون

وأحييت القنوع وكان ميتًا***ففي إحيائها عرضي مصون

إذا طمع يحل بقلب عبد***علته مهانة وعلاه هون


وقال:

أخي لن تنال العلم إلا بستة***سأنبيك عن تفصيلها ببيان

ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة***وصحبة أستاذ وطول زمان


ومن حِكَمِه الشعرية:

لا خير في حشو الكلا***م إذا اهتديت إلى عيونه

والصمت أجمل بالفتى***من منطق في غير حينه

وعلى الفتى بطباعه***سمة تلوح على جبينه


ولم يكن الشافعي يكثر من قول الشعر، بل هي أبيات قليلة يقولها في مناسبة ما أو موقف ما، وقد قال عن نفسه وإقلاله من الشعر:

ولولا الشعر بالعلماء يزري***لكنت اليوم أشعر من لبيد

ولا يعني هذا كراهة الشعر مطلقًا، وأنه يزري بالعلماء مطلقًا، فهذا لا يقوله مثل الشافعي، خاصة وأنه قد قال الشعر وأنشده، وهو يعلم أن الشعر ديوان العرب، وبه كان حسان يدافع عن رسول الله، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (إن من الشعر لحكمة)، وإنما يريد -كما قال العلماء- مَن صرف همته إلى الشعر بحيث صار شأنه وديدنه، وهو المعني بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لأن يملأ أحدكم جوفه قيحًا يريه -أي يصيب رئتيه- خير من أن يملأه شعرً)؛ أي: أراد صرف همته إليه حتى يملأ جوفه منه، فالمراد أن يكون الشعر غالبًا عليه مستوليًا، بحيث يشغله عن القرآن والعلوم الشرعية وذكر الله.

ولكون الشافعي كان مقلا من الشعر، فقد كان كثيرًا ما يتمثل بقول غيره، وهذا ما أوقع البعض في الظن بأنها من قصائده في حين أنها لآخرين.

جدول الشافعي اليومي:

تميز كل إمام بطريقة معينة في التدريس؛ فكان أبو حنيفة يلقي الأسئلة الفقهية على تلاميذه ويناقشهم، وكان مالك يحب أسلوب العرض ويفضله على غيره فكان تلاميذه يقرؤون عليه الموطأ، كما غلب على أبي حنيفة تدريس الفقه وغلب على مالك الحديث.

أما الإمام الشافعي؛ فكان إمامًا موسوعيًّا، ورجالاً في رجل، وكان جدوله اليومي أن يصلي الفجر في المسجد، ثم يبدأ حلقته بأهل القرآن تفسيرًا وبيانًا حتى تطلع الشمس، ثم يجيئه المحدثون ثم أهل العربية، حتى ينصرف النهار ثم ينصرف.

وكان -رضي الله عنه- صبورًا على التعليم والإفتاء، وإضافة لعلوم الشرع التي ألمَّ بها كان آية في علوم ومعارفَ أخر؛ كمعرفته بأيام الناس –أي: تاريخ العرب- في الجاهلية من حروب وملاحمَ وغيرها، كما أخذ من علم الأنساب بحظ وافر، وتعرف على علم الطب عن كثب، واعتنى به وحضَّ على تعلمه.






\7





يتبع



الأكاديمية الإسلامية




[/cell][/table1]
رد مع اقتباس