شعر النقائض عند العرب

شعر النقائض عند العرب
النقائض فن جميل قديم، عرفه الناس مع الشعر، يوم شاعت المفاخرة والمنافرة والهجاء بين الناس، ولكنه لم يكن يومئذ فنًا مستقلاً، ولا بابًا مفتوحًا؛ وإنما كان البيت يقابله البيت، أو الأبيات تقابلها الأبيات. فلما جاء الإسلام لم يكبح جماح شعراء الهجاء، وإنما استنصر بهم؛ لأنهم عُدّة الدعاية، وسلاح الترغيب والترهيب، حتى إذا استقرت أركان الدولة أيام الخلفاء الراشدين، حذروا المتهاجين، وحبس عمر بن الخطاب الحطيئة لهجائه الزِّبرقان بن بدر، كما حبس عثمان بن عفان من بعده ضابئًا البُرجُمي؛ لأنه هجا قومًا من الأنصار.
فإذا ما قامت دولة الأمويين، رأينا هذا اللون يزهو ويسمو، وترتفع أعلامه ومنائره، حتى غدا موضع عناية العامة والخاصة. فالخاصة يتداولونه في المجالسهم، والعامة يشهدون تناشده في المَربد وفي غير المَربد، وربما أغرى عليه بعض الأمراء.
والنقائض، كما عرفها الأدب العربي، في ثوبها التام، قصيدة يقولها شاعر، يبدأها بالنسيب ، ثم يعقبه بالفخر، ثم يتلوه بهجاء شاعر آخر، وقد تختتم القصيدة بمدح الخليقة أو الأمير، فينبري الشاعر الآخر، ويقول قصيدة من نفس البحر والروي، يرد فيها على من هجاه، ويقلب مواضع المدح ذمًا.
هذا النوع الجديد القديم، ازدهر أيام الأمويين، واشتهر به كثيرون. إلا أن الذين استأثروا بالشهرة هم "جرير والفرزدق والأخطل"، والمقدمون على شعراء الإسلام الذين لم يدركوا الجاهلية جميعًا. ومختلف في أيهم المتقدم، ولم يبق أحد من شعراء عصرهم إلا تعرض لهم، فافتضح وسقط، وبقوا يتصاولون.
ومن أسباب هذه النقائض العصبيات القبلية، كقول الفرزدق في الغض من قبيلة جرير:
بنـي أُمَيـَّةَ إنـي ناصـحٌ لكُـمُ
فـلا يَبِيتـنَّ فيكـم آمِنـًا زُفَـرُ

أما كُلَيْبُ بْنُ يَرْبُـوعٍ فلـيسَ لهُـْم
عِنْـدَ التّفـارُطِ إيـرادٌ ولاصَـدَرُ

مُخلَّفونَ ويقضـي النـاسُ أمـرَهُمُ
وهُـمْ بغَيْبٍ وفي عَمْيـاءَ ماشَعرُوا

قـومٌ أنابتْ إليهِـم كـلُّ مُخْزيـةٍ
وكـلُّ فاحشـةٍ سُبَّتْ بهـا مُضَـرُ

فلا تكاد القصيدة تصل إلى جرير حتى يجيبه عنها بنفس البحر والروي قائلاً:
نحـنُ اجتبينا حياضَ المجـدِ مترعةً
منْ حـومةٍ لم يخالطْ صفوَها كـدرُ

لم يُخْـزِ أولَ يربـوعٍ فوارسهـم
ولا يُقـالُ لَهُـمْ كَـلاّ إذا افتخـرُوا

خابَتْ بَنُـو تَغْلِبٍ إذ ضَـلَّ فارِطُهم
حَـوْضَ المكارمِ إنَّ المجدَ مُبْتَـدَرُ

الظاعنـونَ على العمياءِ إنْ ظعنـوا
والسائلـونَ بظهرِ الغيبِ ماالخبـرُ؟

ومن أسباب النقائض أيضًا الأمور شخصية، التي تصدر عن أحد المتناقضين فتبلغ الآخر، فيعيره بها، كالذي رواه أبو الفرج من أنه" كانت لجرير أمة، وكان بها معجبًا، فاستخفت المطعم والملبس، وكانت قبله عند قوم يقال لهم بنو زيد، أهل خصب ونعمة، فسامته أن يبيعها، وألحت في ذلك فقال فيها:
تُكَلِّفُنــي مَعِيشَــةَ آل زيــدٍ
ومَـنْ لـي بالمُرَقَّـقِ والضِّنَـابِ

تقـولُ ألاَ تَضُــمّ كَضَـمِّ زيــدٍ
وما ضَمِّـي وليس معـي شَبابـي

فقال الفرزدق يعيره في ذلك:
فـإن تُفْقِـرْك عِلْجَـةُ آل زيــدٍ
ويُعْجِـزْكَ المُـرَقَّــقُ والصِّنَـابُ

فَقِدْمًا كـان عيـشُ أبيـك مُـرَّاً
يَعِيـشُ بمـا تَعِيـشُ بـهِ الكِـلابُ

وقد سارت المناقضات على ألسنة الناس، حتى أصبحت مَرْتَعًا للتندر والفكاهة، حتى النساء، أصابهن من ذلك نصيب حسن. روى صاحب كتاب الأغاني أن :" الفرزدق أناخ في ماء لبني خنيفة، فدخل دارًا لهم، إذ دخلت جارية كأنها سبيكة فضة، وكأن عينيها كوكبان دريان، فسالت: ممن الرجل؟ .
فقال: من بني نهشل. فتبسمت وقالت:
أنت إذن ممن عناه الفرزدق بقوله:
إن الـذي سَمَكَ السمـاءَ بَنـي لَنَـا
بيـتًا دَعَائِمُـهُ أعَـزُّ وأطْــوَلُ

بيـتًا بَنَـاهُ لَنَـا المَلِيكُ ومَابَنَـى
مَلِكُ السّمَـاءِ فإنّـهُ لا يُنْقَــلُ

فقال الفرزدق: نعم جُعلت فداك! فضحكت وقالت:
ولكن ابن الخطفي قد هدم عليكم بيتكم هذا الذي فخرتم به حيث يقول:
أخَزَى الذي رفَـع السَّمَاءَ مُجـاشعًا
وبني بنـاءَكَ بالحضيضِ الأسفـلِ

بيتــًا يُحَمِّـمُ قَيْنُكُـم بِفنـائِـهِ
دَنِسـاً مَقَاعِـدُهُ خبيـثُ المَدْخَـلِ

فوجم الفرزدق، فلما رأت ذلك في وجهه قالت:
ـ لا عليك، فإن الناس يُقال فيهم ويقولون.
ويحدث أبو الفرج أن الفرزدق وجرير والأخطل، اجتمعوا عند بشر بن مروان، وكان بشر يغري بين الشعراء فقال للأخطل:
احكم بين الفرزدق وجرير. فقال الأخطل: أعفني أيها الأمير! قال: احكم بينهما. فاستعفاه بجهده، فأبى إلا أن يقول؛ فقال: هذا حكم مشؤوم: الفرزدق ينحت من صخر، وجرير يغرف من بحر.
فلم يرض بذلك جرير، وكان سبب الهجاء بينهما، فقال جرير في حكومته:
يـا ذا الغباوة إن بشـراً قد قضـى
ألا تجـوزَ حكومــة النشــوان

فدعـو الحكومـة لستُمُ من أهلهـا
إن الحكومــة فــي بني شيبـان

قتلــوا كليبكـمُ بلقحـة جارهــم
ياخُــزْرَ تغلـبَ لستـُم بهجــان

فقال الأخطل يرد على جرير:
ولــد تناسبتـم إلـى أحسابكــم
وجعلتُــم حكمًـا مـن السلطـان

فـإذا كليـب لاتســاوي دارمـًا
حتــى يسـاوي حـزرم بأبــان

وإذا جعلـت أبـاك فـي ميزانهـم
رجحـوا وشال أبوك في الميـزان

وإذا وردت المــاء كـان لـدارم
عِفِـواتُه وسهــولة الأعطـــان

لقد كان ماتوقعه الأخطل صحيحًا، فقد استطارا في الهجاء، فقال الأخطل:
أخذنا على الخور قد يعلون
ردافَ الملــوك وأصهـارَهــا

ولـــم أر ملحمـــة مثلهــا
أقَـفْ لـي أُخبـرْك أخبـارهــا

أمــرَّ علــى ثعلــب جائــع
وأشبــع للـذئب إن زارهــا

تركنــا البيــوت لأعـــدائنا
وعــون النســـاء وأبكارهــا

ويرد عليه جرير فيقول:
لحقنـــا بأبحــر والحوفــزان
وقـد مـدت الخيـل إعصارهــا

ونحـن ورثنـا فخـلّ الطــريق
جوابــيَ عــــادٍ وآبارَهــا

فلـو أصبــح الناس حربـًا عدى
لقـيس وخنـدف مــا ضارهــا

كَفـَوْا خُزْر تغلب نصـر الرسـول
ونقــض الأمــور وأمرارهــا

وعلى الرغم من هذه النقائض، فقد أحب الشعراء الثلاثة بعضهم بعضًا في أعماقهم، وربما أعان أحدهم الآخر في محنته.
ويرى الباحث أن هذا الفن قائمٌ على المداعبة والمآنسة بين هؤلاء الشعراء، ففي وقت الفراع يجتمعوا الشعراء وكل واحد منهم يهجو الآخر بهجاء لاذع، ويكون بينهم حكمًا يقضي الأمر ويعترف بحق الأقوى في الهجاء؛ والدليل على ذلك أنه قد أحب الشعراء الثلاثة بعضم بعضًا، وإذا نظرنا إلى هذا بحد المعقول، والإجابة على هذا السؤال، الذي يطرح نفسه، هل يجتمع الحب والهجاء؟، فهذا أمر متناقض.

موضوع مميز اعجبني كثيرا محتواه
وجزيت خيرا ع الطرح الرائع
وشاكره ومقدره لك جهودك الطيبه
ودمت ودام لنا نبض قلمك الجميل

موضوع رائع وجميل

كل الشكر لك الدكتور

العزيز على طرحه

ولاعدمناك ولاعدمنا جديدك




ودي وجل احترامي

تسلم هالاياادي ع هييك طرح
طرح في قمة الرؤؤؤعة والجمال
لاخلا ولاعدم
لك ارق التحايا واعذبها